الخميس، 11 أغسطس 2016

كيف فقدت الأمة خيريتها؟

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسَّلام على أشرف الخلق عجما وعربا نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد:
فمن الضروريِّ لكل مسلم أن  يعرف الأسباب التي أدت بأمته إلى أن تكون في مؤخرة الركب بعد أن كانت تقوده بالأمس، وتملي عليه، واليوم دارت عليها دائرة السوء فأضحت تتشرب كأس الذل، وتستجيب لكل ناعق مهين، فتوصيف المرض يُوضح الدواء، وإذا عُرف السبب بطل العجب.
إن فقدان الأمة الإسلامية لخيريّتها، والوضع المتأزم والمنهار الذي تعيشه في الوقت الحالي، وهيمنة عدوِّها عليها لم يحدث فجأة أو من فراغ، وإنما حدث كل ذلك نتيجة عوامـل ومؤثرات عديدة تعـرضت لها الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويــل وما زالت.
فما هي هذه الأسباب والعوامل؟ وكيف تصدع البناء الذي شيَّده النبيُّ ؟( د. سليم عبده قائد القباطي، عوامل تقهقر الأمة الإسلامية، ص:5.)
لقد كنا ردحا من الزمن ملوك هذه الدنيا نهدي الحيارى ونخرج الناس من الظلمات إلى النور، ونُعلم الجهّال، ونوضح للناس معالم الطريق.
ثم طال على الأمة الأمد فقسى قلبها، وبدأ الانحراف يشق طريقه ويتغلغل في كينونتها، وفشى الجهل حتى عن أساسيات الملة، وبدأ التقصير عن الدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فأصبحت الأمة ضعيفة لمخططات أعدائها.

وفي المقابل نشط الأعداء في محاربة هذا الدين وأهله، وغزوا عليها عسكريا وفكريا، وصبّوا عليها أنهارا من التيارات والأفكار الهدامة، ينفثون سمومهم حتى بذروا بذرة سوء في الأمة تتكلم بألسنتها وتحمل أفكار أعدائها وعقولهم ومشاعرهم وتطلعاتهم، ووفّروا لتلك الطبقة العلمانية الكافرة مواقع النفوذ والسلطة والحكم، فجثمواعلى صدر الأمة وبالغوا في إرضاء أسيادهم على حساب دينهم وأمتهم ووطنهم، فأصبحوا أحد المعاول الهدامة التي استخدمها العدو لفتك الأمة.
ولم يتحقق للعدو ما يريده إلا عندما انحرفت الأمة عن الجادة واتبعت سنن الذين أوتو الكتاب من قبل، ولم تعتبر بقول الله – عز وجلَّ –: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد:16.
يورد الإمام القرطبي في تفسيره أربعة أقوال في زمن نزول هذه الآية:
1.     في صحيح مسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، إلا أربع سنين.
2.     وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
3.     وقيل نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة.
4.    أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي - -  لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم بالخشوع) فقالوا عند ذلك: خشعنا. (الإمام القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 17/ 249.)
أيّما يكون الزمن الذي نزلت هذه الآية من بين هذه الأقوال، فإن هذا العتاب موجه إلى الرعيل الأول، وحث عليه بالخشوع، فما بالك ونحن اليوم في القرن الخامس العشر الهجري الذي تبلدت فيه الأحاسيس، ولم تعد الأمة تؤدي دورها الريادي، بل فقدت خيريتها التي أرادها الله لها.
لقد ورد في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات تحذير موجه إلى الأمة المسلمة، بأن لا تستنّ بما استنت الأمم من قبلها، لكن الأمة وقعت في المحظور واتبعت سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، وبدأ الانحراف يشق طريقه، ويتغلغل في أوصال الأمة.
إن هذه الأمة ذات وضع معين في التاريــخ، إنها ليســت مجرد أمة من أمم الأرض، إنها أمة الرسالة الخاتمة، التي حملت رسالة الرسول الخاتم - – الذي أرسل إلى البشرية كافة إلى قيام الساعـة، وهي بهذه الصفة خير أمة أخرجت للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. ولكنَّ خيريتها ليست ذاتية، ولا عرقية، ولا قومية، إنَّما هي خيرية مستمدة من الرسالة، التي أخرجت من أجلها: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}( آل عمران: 110)، وكذلك وضعها الخاص بين الأمم مستمد من ذات الأمر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). ومن ثمّ تتحقق لها صفة الخيرية، طالما كانت قائمة برسالتها، وتزول الصفة عنها كلما فرطت في أداء الرسالة. (محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص: 19ــ20.).

وبهذا فقدت الأمة خيريتها... تحققت لها صفة الخيرية لما كانت أمة متماسكة قائمة بالأمانة والرسالة التي احتملتها، وزالت عنها صفة الخيرية، وتهاوت إلى الحضيض، واستخفها الذين لا يوقنون لما انحرفت عن الصراط السوي، وخرجت عن طاعة مولاها... وتلك سنة ربانية في الذين ضيعوا دين الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا، فهي قوانين ثابة لا تحابي أحدا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق