الخميس، 11 أغسطس 2016

طول الأمل !

وقــــــفـــــة مـــع آيـــــة
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
كم قرأنا هذه الآية في كتاب الله وكم سمعناها؟ ولكن هل وعيناها؟ وهل تنبهنا إلى ما فيها من تحذير ؟ نعم .. إنه تحذير شديد اللهجة، مصدره ليس أحد من البشر ولا حتى نبي من الأنبياء بل هو صادر عن رب العالمين تبارك وتعالى، ومِنْ ماذا يحذرنا ؟ إنه يحذرنا من اتباع سنن الذين أوتوا الكتاب من قبلنا، الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وخروجوا عن طاعة ربهم.
طول الأمد سبب أساسيّ من الأسباب التي أدت إلى انتشار المذاهب الهدامة، وانحراف الأمة عن نهجها القويم، بل نستطيع أن نجزم بلا تردد ولا شك أنه العمدة لكل الأسباب الأخرى، لأن البنيان إذا تقادم عليه العهد، ولم يجد الترميم اللازم، وأصبح السوس ينخر في عظامه، ضعف أمام كل ريح تعصف به، ولا يقوى على الصمود.
فلنقف مع هذه الآية وقفات عدة:

الوقفة الأولى: مناسبة الآية لما قبلها من الآيات:
لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة، كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها، والإستكانة لعظمته، فعاتب الله المؤمنين على عدم ذلك.
أي: ألم يأت الوقت الذي به تلين قلوبهم، وتخشع لذكر الله، الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم ؟
وهذا فيه الحث على الإجتهاد، على خشوع القلب لله تعالى، ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية، والأحكام الشرعية، كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك(1).
الوقفة الثانية: وقت نزول هذه الآية ودلالته:
يورد الإمام القرطبي في تفسيره أربعة أقوال في زمن نزول هذه الآية:
1.     في صحيح مسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(2)، إلا أربع سنين.
2.     وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
3.     وقيل نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة.
4.    أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي - -  لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم بالخشوع) فقالوا عند ذلك: خشعنا(3).
أيّما يكون الزمن الذي نزلت هذه الآية من بين هذه الأقوال، فإن هذا العتاب موجه إلى الرعيل الأول، وحث عليه بالخشوع، فما بالك ونحن اليوم في القرن الخامس العشر الهجري الذي تبلدت فيه الأحاسيس، ولم تعد الأمة تؤدي دورها الريادي، بل فقدت خيريتها التي أرادها الله لها.
لقد ورد في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات تحذير موجه إلى الأمة المسلمة، بأن لا تستنّ بما استنت الأمم من قبلها، لكن الأمة وقعت في المحظور واتبعت سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، وبدأ الانحراف يشق طريقه، ويتغلغل في أوصال الأمة.
إن هذه الأمة ذات وضع معين في التاريــخ، إنها ليســت مجرد أمة من أمم الأرض، إنها أمة الرسالة الخاتمة، التي حملت رسالة الرسول الخاتم - – الذي أرسل إلى البشرية كافة إلى قيام الساعـة، وهي بهذه الصفة خير أمة أخرجت للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. ولكنَّ خيريتها ليست ذاتية، ولا عرقية، ولا قومية، إنَّما هي خيرية مستمدة من الرسالة، التي أخرجت من أجلها: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}( آل عمران: 110)، وكذلك وضعها الخاص بين الأمم مستمد من ذات الأمر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). ومن ثمّ تتحقق لها صفة الخيرية، طالما كانت قائمة برسالتها، وتزول الصفة عنها كلما فرطت في أداء الرسالة(1).
وبهذا فقدت الأمة خيريتها... تحققت لها صفة الخيرية لما كانت أمة متماسكة قائمة بالأمانة والرسالة التي احتملتها، وزالت عنها صفة الخيرية، وتهاوت إلى الحضيض، واستخفها الذين لا يوقنون لما انحرفت عن الصراط السوي، وخرجت عن طاعة مولاها... وتلك سنة ربانية في الذين ضيعوا دين الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا، فهي قوانين ثابة لا تحابي أحدا.
الوقفة الثالثة: في ظلال هذه الآية:            
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(2).
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها، ونزّل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصّر ويحذّر.
عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال:
«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟» ..
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق ... وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج.
إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان. وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد. فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله. فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار.. وكذلك القلوب حين يشاء الله... وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب كما تحيا الأرض وما يمدها بالغذاء والري والدفء(1). إنها لموعظة إلهية عظيمة وزادها عظمة أن تنزل في أصحاب رسول الله – – تستبطئ قلوبهم، فكيف بمن بعدهم(2)، لكن الأمة وقعت في المحظور واتبعت سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، وبدأ الانحراف يشق طريقه، ويتغلغل في أوصال الأمة.




(1)  عبدالرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكلام المنان،ج:5،. ب.ط.ت: 1414هـ - 1994م. دار الذخائر. ص:179
(2)  سورة الحديد الآية:16.
(3)  الإمام القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ط:1. ت:1408هـ - 1988م. دار الكتب العلمية- بيروت،  17/ 249.
(1) محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص: 19ــ20.
(2)  سورة الحديد الآية:16.
(1)  سيد قطب، في ظلال القرآن، ط:37، ت:1429هـ - 2008م، دار الشروق، 6/ 3489.
(2)  أبوبكر جابر الجزائري، أيسر التفاسير، ط:2، ت:1407هـ - 1987م. دارمكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 4/412.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق