الخميس، 20 أكتوبر 2016

الإفلاس الماحق!


كعادة الملتقيات الصومالية التي يلوكون فيها السياسة ويخوضون في تحليلها حتى تظن وتقول في نفسك، إنهم محللون سياسيون مهرة، قال أحدهم – وقد أطال سكوته وكان يستمع إلى أقاصيص القوم باهتمام بالغ، وكان الحديث يدور حول ما يجري في إثيوبيا، وإعلانها لحالة الطوارئ مؤخرا، بعد سلسلة من المظاهرات التي أقضت مضجع الحكومة الحالية، وعرقلت مسيرة الحياة في البلاد، وتوققوا حول الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة بحق الأوروميين، وكيف أنهم عانوا كثيرا في ظل الحكومات الإثيوبية المتلاحقة، حينها قال هذا الشخص، وقد بدا الارتياح من وجهه - : (دعها فلتسحق الأوروميين)! استفزتنيى هذه الجملة، وحملني الفضول على الاستفسار فقلت موجها الكلام نحوه: لم تقول هذا؟ كيف قلت؟ هل هذه زلة لسان أم تعي ما تقول؟ قال مؤكدا معللا: (دع الأروميين فليُسحقوا لأنهم أبادونا، وقتلوا منا فئاما من الناس) اختنقت من هذا الإفلاس الأخلاقي والإيماني والإنساني الماحق!!.
وشعرت حالة من الغثيان فحاولت عبثا أن أسلط الضوء أو أقشع الغشاوة من عينيه لأن في مثل هذه الحالات، وفي مثل هذا المكان لا ينفع معه شرح وإيضاح، أو وعظ وإرشاد؛ لأن الذي أمامي لا يعاني من الحقد والضغينة التي لا مبرر لها فحسب، بل يعاني حالة من الإفلاس الديني والإنساني، قبل أن يعاني من الحَوَل السياسي والضبابية وعدم التفريق بين العدو والصديق، تلك السمة التي أصبحت من السمات البارزة في هذا العصر!
ألا تعلم أنهم مسلمون "المسلم أخوا المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ..." "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أما تعلم أن قومية أورومو كبرى القوميات الإثيوبية ويبلغ تعدادها زهاء أربعين مليون نسمة، ويمثل المسلمون أغلبيتها الساحقة، وتحتج منذ عشرات السنين بسبب انتهاك حقوقها والتمييز الاقتصادي والمجتمعي، وتتعمد الحكومة إلى القتل، والتنكيل، والاعتقال العشوائي، واغتصاب النساء، والتهجير القسري، والاستيطان المنظم، والإبادة الجماعية، ومحاربة الثقافة الخاصة لقوميتها، وتعتمد سياسةً تُكَرِّس انتشار الفقر والتخلف والجهل، ومحاربة التنمية والتطور في مناطقها!
وتعاني الأورومو فقدان الحقوق الأساسية كحرية التعبير والحركة التجارية، وحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات، إضافة إلى " المستقبل المجهول" الذي ينتظر أطفالها المحرومين من مقومات الحياة الأساسية من تعليم وصحة. والأنكى من ذلك كله العمليات الممنهجة والسعي الحثيث لنشر التنصير بين صفوف أبنائها، وأن أغلبية أبناء القومية اضطروا إلى ترك مدنهم وقراهم، إما إلى المناطق الداخلية أو إلى الخارج، بنسبة 75% منذ عام 1992م نتيجة "السياسات العدوانية التي تنتهجها السلطات ضدهم"(1)؛ وما نقموا منهم إلا لأن غالبيتهم مسلمون، وأنهم يشكلون كثافة سكانية، ومطالبتهم بحق تقرير مصيرهم، وتمسكهم بحقوقهم المشروعة.
تعبتُ من الشرح والبيان، ولكن بدون جدوى، هزَ كتفيه، وتبسم بخبث، وقال: لا بأس، فقام من المقعد وغادر!
حزنت لحاله، فتمتمت وغمغمت: يا له من مريض! ما هذا الإفلاس الماحق الذي يمحق المروءة والشرف والشهامة، بل ويغتال الإنسانية والإيمان من القلب! ... إن الإفلاس أنواع وأشكال لكن أسوأ أنواعه هو الإفلاس الفكري والأخلاقي، وهو ما يعانيه هذا الرجل ومن على شاكلته! فاللهم سترك وعفوك.
وفي خضم هذا الشرود والذهول أدركت وأيقنت أن القضية ليست حالة مرضية واحدة، وإنما هي ظاهرة منتشرة بين كثير من شرائح المجتمع. فتمثل لي ذلك المشهد الذي حضرته بنفسي حين هلك السفاح " مليس زناوي " 2012م، وأقيم له حفل تأبين في إحدى الحواضر الصومالية، والأغنية الدعائية التي أهدوها لروحه النتنة، تلك الأغنية التي أتقزز لذكراها malisoow allow kuu maciin malisoooooow”"؛ الضحية تترحم للسفاح! مسلم يدعوا لكافر أن يرحمه الله! وأشد من ذلك حين أتذكر بعض طلبة العلم أو قل العلماء – إن صح التعبير – وهم يشككون في جواز الدعاء عليه، أو الفرح بموته؛ لأنهم لا يتأكدون من كفره! وحجتهم أنه ما كان يحضر الكنيسة! وكان يغلق نفسه على غرفة خاصة في أوقات معينة! حتى في وجه زوجته لا يدخل عليه أحد! والرواية كلها منقولة عن زوجته، ويتناقلها الناس!
تألمت كثير وشعرت باشمئزاز لا مثيل له، وتمثلت قول نبي الله يعقوب: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله...." فلم أنطق ببنت شفة، إلا من أثق به، وبعيدا عن الأعين؛ لأن الكلام ضد التيار الهادر في مثل هذه المواقف يرديك إلى مجاهيل لا يعلمها إلا الله، واكتفيت بأضعف الإيمان!
ثم تهاجمنيى التغريدات والمقالات المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي "ليست ثمة فرق بينا وبين إثيوبيا" "إثيوبيا إخوة لنا" "لا فرق بيننا وبين الإثيوبيين" "سقوط الحكومة الإثيوبية ليس لصالحنا في هذا الوقت" تعليقا على المظاهرات الأخيرة وتداعياتها، "يجب أن نعترف بالخطأ الذي ارتكبنا منهم"!!!!!!!!!!!!
حينئذ تدرك يقينا أنك أمام حالة مرضية مزرية، وإفلاس ماحق لم تعرفه الأمة من قبل في تاريخها الطويل الممتد عبر القرون، والله المستعان.
وثالثة الأثافي حين يكون منبع هذا الإفلاس عن القيادة والهرم الأعلى للدولة، حين ذهبت لتعزي في مصاب قتلة الشعب، ومن أهلك الأخضر واليابس، وأتى على البيوت والأنعام، وقبلها الأرواح البريئة من النساء، والأطفال الرضع، والشيوخ الركع، وتعبر عن الأسف والحزن الشديد عن مصاب من ارتكب كل هذه الجرائم بأحط أسلوب بالركوع والانحناء! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أو حالة الاحتراب والاحتراق الداخلي التي يقودها أمراء الحرب الجدد، مصاصو الدماء، المتاجرين بمقدرات الأمة، الذين يتعبشون ويعيلون ذويهم من ويلات المجتمع ودمائه التي تسيل، وما قصة جالكعيو عنا ببعيد!
إن هذا لا يعني عدم وجود أصوات شريفة، ونداءات راشدة تدعوا إلى الوحدة والوئام، وتوحيد لحمة الأمة من جديد، ونسيان الماضي، وأنه لا مناص من التكاتف والإخاء، لكنها أصيبت بالبحة والضمور والإختفاء، في وسط هذا الركام العفن، والإفلاس الماحق، والحول السياسي، والضبابية الفكرية، وغياب البوصلة، وفقدان المروءة التي ضربت كافة فئات المجتمع، من ساسة وقادة ووجهاء القبائل، وحتى المثقفين، وبعض العلماء!
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى به أهل معصيتك. آآآآمينٍ





(1)  الجزيرة.نت بتصرف

هناك تعليقان (2):