الأربعاء، 10 أغسطس 2016

الاستقامة حاجة بشرية وفريضة شرعية

لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، فأكمل بنيته وأحسن صورته، خلقه سبحانه فسواه فعدله ولم يجعله معوجا ولا منحنيا مثل الحيوانات، وإنما أقامه وأكمل هيكلته، أراد له أن يكون مستقيما في خِلْقته كما أراد له أن يكون مستقيما في خُلقه.
ولكن النفس البشرية تنحرف عن الطريق القويم لمؤثرات خارجية تأتي من تزيين الشيطان للباطل، وتحبيبه لها زخارف الدنيا ومتاعها الفاني(قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ..إلا عبادك منهم المخلصين).
أدرك الشيطان أن آدم وذريته قد نالوا عندالله منزلة عالية رفيعة، فقاده الحسد والحقد على عداوتهم، وأن يسلك كل طريق يوصله إلى أن يغويهم ويضلهم عن الجادة، فأقسم بأغلظ الأيمان أن يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم لئلا يشكروا ربهم: (.......فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم .. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد اكثرهم شاكرين)

فمنذ ذلك الحين والشيطان لا يكف عن إغواء بني البشر بشتى الطرق والوسائل، فهو لا يكل ولا يمل من اختراع أساليب وطرق متنوعة لتحقيق أمنيته وهي أن يعكر صفو النعيم والاصطفاء الذي تفضل به المولى سبحانه على آدم وذريته.

فبدأ بأبينا آدم فزين له الشجرة التي أُخرجنا من أجلها الجنة، ثم سعى في إفساد أخوة ابني آدم، وأغرى هابيل على قتل أخيه وباء بإثمه فأصبح من النادمين، ثم انفرط العقد وتوالت انتصارات الشيطان على أبناء آدم، حتى استطاع أن يزين لهم عبادة غير الله والإشراك به سبحانه، وتأليه غيره، فأسس لنفسه جيشا من البشر يعينه على مهامه التضليلية بعد أن اخترق الصف الآدمي، وجرى منهم مجرى الدم، حتى بلغ أعوانه وأتباعه من الإنس اليوم في أوج قوتهم وطغيانهم، وتجرؤا على إنكار وجود الله أصلا، وأن البشر تجاوز ذلك الزمن الذي كان بجاجة إلى الغيبيات، فهو بفضل ما وصل إليه من العلم والاختراعات غني عن أي قوة خارجية!!!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبير.

لما أهبط الله آدم هو وزوجه حواء إلى الأرض أوصاه بأن يسقيم على طريقه، و يتبع هداه، ويحذر من الشيطان، ويتخذه عدوا مبينا: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)، فإنه من يتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقى (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) أما من أعرض وتنكب عن الطريق واتبع الشيطان فلا يلومن إلا نفسه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).
تلك وصية الله لأبينا آدم أول ما وطئ قدمه على البسيطة، إنها وصية إلهية ربانية نابعة من رحمة الرحمن الرحيم، وإرادته الخير لعباده، وأنه لا يرضى لهم الكفر: (ولا يرضى لعباده الكفر).
نعم إنه أمر إلهي، والأمر الإلهي واجب لا يسع أحدا من البشر كائنا من كان أن يخالفه، فالاستقامة واجبة على كل الخلق منذ ذلك الزمن السحيق وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
العالم كله وما فيه من جمادات ونباتات وحيونات – الأرض والسماء، السهول والجبال والوديان – يسبح بحمد الله، ويقر بوحدانيته، ويتجه إليه بالعبودية والخضوع في تناسق عجيب، بحيث لا يشذ ولا ينحرف من هذا الكون الفسيح وما فيه إلا إبليس ومن اجتالهم من البشر: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).  والإنسان إذ يخرج على عبادة الله ولا يستقيم على نهجه، فإنه يخرج على الكون كله ويخالف هذا التناسق فيصير كمن (خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
البشر كل البشر يسعى وراء إسعاد نفسه ومن يعول؛ فمنهم من يسعى وراء المادة وجمع الأموال ظنا منه أن المال هو سرُّ السعادة والاطمئنان، ومنهم من يسعى وراء الشهرة، ومنهم من يجدُّ ويكدُّ ليجلس على كرسي الرئاسة ويخضع له الناس، كل ذلك ظنا منهم أنها تحصِّل لهم السعادة والهناء، ولكنهم رجعوا بخفي حنين، حتى وصف عالم غربي بهذه الثلاتة (المال والشهرة والرئاسة) بــــــ: "الثالوث الوهمي" الذي ظن الكثير بأنها أسباب السعادة ولكنها في الحقيقة (سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا).

جُربت هذه الوسائل وغيرها فلم تأت بخير بل زادت من تعاسة التعساء وشقاوة الأشقياء، حتى إننا نجد في القرآن أن هناك من يُعذب بالمال: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريدالله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).
وقد ثبت شرعيا وواقعيا وتاريخيا أن أسعد البشر وأهنأهم عيشا الذين استقاموا على نهج الله، واستمسكوا بوصيته لآدم واستضاءوا طريقهم بوحي الله، وقد قال العارف : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ولك أن تتصور أيضا كم كان هذا العابد الزاهد سعيدا حين قال: والله نحن في نعمة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا بالسيوف.
فأكثر ذكره في الأرض دأبا *** لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فبذكره تسعد النفوس وتطمئن الأرواح، وتذهب الأحزان وتزول الغموم: "الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"

فتعالوا ندخل جنة الاستقامة والانضمام إلى قافلة المؤمنين المستقيمن المطمئنين السعداء (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) هذا الركب الكريم الذي يحمل لوائه الأنبياء وعلى رأسهم أشرف الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، الذين أمر الله أن نقتفي أثرهم ونقتدي بهداهم: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" أولئك الأكارم والذين اتبعوهم وأصبحوا من المُنعمين من "الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" أولئك الذين تتنزل عليهم الملائكة حين تتوفاهم فتطمئنهم وتبشرهم بالجنة التي كانوا يوعدون: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافو ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون..  نزلا من غفور الرحيم)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق