الخميس، 11 أغسطس 2016

لا تحسبوه شرًا لكم

تتوالى المصائب تترى على الأفراد والأشخاص، وتعصف بالأمم والمجتمعات، فتهجم عليهم وهم لا يشعرون، من حيث لم يحتسبوا، أو لم يستطيعوا لها دفعا؛ فتفاجئهم الدهشة والحيرة، ويسيطر الحزن والأسى في قلوبهم، عندما يرون أنه لا حول لهم ولا قوة في رفع هذه المصيبة العظيمة.
إلا أن المؤمن الحق له نظرة خاصة، وميزان خاص حيال الأزمات التي تواجهه، فبينما يجزع أهل الخواء الإيماني ويتضجر، فهو في ثبات يتجلد ولا يتضعضع بل يتعضد بالإيمان، فتزيده الأزمات رسوخا في الإيمان ويزداد قربا من الله؛ لأنه ينطلق من منطلق: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " ولأنه يعلم علم اليقين "أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه" لا تزعزعه الحوادث المدلهمات، فمهما طال الليل واسودَّ ظلامه، فانبلاج الفجر لا محالة.
يقف المسلم المعاصر لينظر إلى أحوال أمته الجريحة، فلا تقع عينه إلا على أصناف من الابتلاءات وألوان من المحن والمصائب تتجرعها أمة الإسلام.
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع مما نراه اليوم من التداعي والتكالب على أمة الإيمان، إنها بلايا ومحن، محك تبعثر عما في القلوب، وتظهر مكنون الصدور والضمائر.

فهناك تشريد وإبادة جماعية يومية في بلاد الشام في سوريا الحبيبة، وهناك ترويع للآمنين وسجن من غير ما ذنب اقترفوا في أرض الكنانة، آلات القتل تصوَّب على صدور الأبرياء االعزل؛ وما نقموا منهم إلا أنهم طالبوا بحقوقهم المشروعة بطريقة سلمية، فأينما توجهت عينك من أرض الإسلام تجابهك مأساة مروعة!
جراحات فلسطين، وصرخات الأقصى، واستغاثات أفغانستان منذ عقود لم تتوقف.
أما في هذه البقعة التي نعيش فيها – منطقة القرن الإفريقي – فحدث عنها ولا حرج، فما إن بدأت ويلات الحرب الأهلية تخبو وتختفي من الصومال، ويحاول الشعب ترتيب أوراقه وحلحلة مشاكله من المعين الإلهي، ليصنع مستقبله أيام المحاكم الإسلامية، حتى دُق ناقوس الخطر، ودفت طبول الحرب، وأعطى السيد ضوءًا أخضر لعبيده، فاشتعلت نار الحرب من جديد، وبأسماء مختلفة، وجاء الاستعمار وعادت معه فترة الوصاية الأجنبية، وتمضي حياكة المؤامرات على قدم وساق ليل نهار، وببطئ، جريا على قاعدتهم "بطيئ لكنه أكيد المفعول" لتقطيع أوصال المنطقة من جديد، وتفتيت وحدة الأمة، وتقسيمها إلى دويلات ضعيفة متناحرة تتعاون مع الاحتلال وترتمي في أحضانه، ليحميها من عدوان الدويلة – الشقيقة – المجاورة!!
آه ثم آه في حال أمتنا!
ولكن رغم الجراحات والأزمات، رغم الخطوب والحروب، رغم التشريد والتهجير والتدمير والاقتتال الداخلي، رغم المصائب والمتاعب، رغم هذا كله نقول وبملء أفواهنا "لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم"
"لأن الأزمات محطات مهمة في تاريخ الشعوب لا تُفَوَّت، فيها تراجع القناعات، وتصنع المعجزات، وفيها يراجع رسم الشخصية الجماعية للمجتمع، وهي فرص نادرة الحدوث"
فلا بد من مراجعة شاملة لقناعاتنا كأفراد وكحركات وقبائل، وكمجتمعات ثم كأمة بأسرها، لا بد من مراجعة حقيقية لمكنونات صدورنا، وَلْنُبَعثر ما في قلوبنا؛ لتظهر لنا هذه الحقيقة الإلهية, وهذه السنة الاجتماعية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" لنُخرج ما التبس بأنفسنا وران على قلوبنا من الأفكار والمفاهيم الخاطئة، والتصورات المقلوبة؛ لنصنع المعجزات بعد هذه المراجعة، فتتيسر لنا عملية رسم الشخصية الجماعية للمجتمع؛ فنخرج من التيه والضياع، ومن الغثائية إلى الخيرية المطلوبة، التي أرادها الله لنا يوم أخرجنا إلى الناس "كنتم خير أمة أخرجت للناس".
يجب أن نمضي لهذا الهدف العظيم بحكمة وروية، ونوجه إليه جهودنا ونبذل فيه أوقاتنا، متوكلين على الله، مؤمنين في قرارة أنفسهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولا بد أن نضرب صفحا عن الأصوات المثبطة والمخذلة، وأن نُطلِّق اليأس والقنوط إلى الأبد، وفقد الأمل عند غياب التمكين، لأن القنوط واليأس ليس لهما وجود في قواميس المؤمنين بالله.
"ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون"
"إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"
"فالله – عز وجل – هو الذي يحدث التغيير.. لكنه لا يحدثه إلا إذا تحرك الناس وسعوا في التغيير"(1)
و"إن لله – عز وجل – سننا لا تتبدل أو تتغير.. ومن هذه السنن أن نصر الله – عز وجل – ينزل على من نصره .. والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهذا لا يكون إلا بإعداد وتخطيط، وحسابات وترتيب"(2)
وأخيرا – أخي القارئ – أتركك بهذا الخطاب الذي توجه به الدكتور راغب السرجاني إلى الشعوب الإسلامية التي ترزح تحت معاناة الظلم والقهر والفساد، وتكميم الأفواه، وجميع ألوان التعذيب في السجون، ومصادرة كاملة للحقوق المشروعة، وإهدار لكرامة الأمة، فقال الدكتور مخاطبا لهذه الشعوب: "اسعوا إلى التغيير بكل طاقاتكم، واعلموا أن الظالمين ضعفاء، وأن التغيير قادم لا محالة، ولا تجزعوا من رؤيتكم لكل الطرق مسدودة، فهناك طريق واسع مفتوح لا ترونه، ولن تروه إلا بعد أن يفتحه الله بقدرته، ومتى سيفتحه؟ عندما يرى منكم جهدًا لفتح الطرق المسدودة الكثيرة التي تشاهدونها.. عندها يفتح الله لكم من رحمته طريقا لم تتوقعوه، ولم تسعوا إلى فتحه .. وهذه سنة ماضية لا خلف لها .. فأبشروا وتحركوا" اهـ
ولتكن هذه الآية نصب أعينكم في كل لحظة "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
فلا بد من المجاهدة، وأن تكون في سبيل الله لا في سبيل الشيطان؛ فإذا تحقق الشرطان فالنتيجة مضمونة؛ وهي الهداية، والخروج من المأزق.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين....



(1)  أ.د. راغب السرجاني/ رسائل من قلب الحدث ص:46.
(2)  نفس المصدر ص:61

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق