الخميس، 11 أغسطس 2016

كسمايو.... من الداخل! (2)

نشرت الجزء الأول من هذا المقال عبر شبكة الحكمة، وكان عبارة عن خطوط عريضة لما كان يجري في المدينة، وإشارات رمزية لحالة الغليان التي تعيشها المدينة، وكنت آمل أن أنجز الجزء الثاني بسرعة لكن كان هناك غموض لبعض الأمور – وهو ما جعلني اكتفي في الجزء الأول بالخطوط العريضة – وكانت الأيام حبلى لم تتمخض بعد، أما الآن فقد استقام المنزل واتجهت الأمور إلى الوجهة التي أُحضر لها.
ولكنني لما استلت القلم، عجز القلم عن التعبير عما يجول في الخاطر أو يحدث في الواقع؛ لأن الحروف تعجز عن وصفها، تزاحمت الأفكار في ذهني، وتجاذبت الصور والأحداث المؤلمة والمحزنة التي اصطدمت معها، ولا أدري بأيها أبتدئ!
هل أتحدث عن الأحداث الفجيعة التي راح ضحيتها أبرياء عزل وشباب أوتوا من قبل جهلهم وسذاجتهم، فاجتالتهم شياطين الإنس والجن و زجتهم في أتون حرب لا يُدرى الخاسر فيها مِنَ الرابح!!

أم أتحدث عما خفي وراء السرداب المظلم، وكيف دبرت هذه الأحداث المفجعة؟ ومن هو الشيطان اللعين الذي أشعل الموقف وتركه يشتعل ويحترق؟ ومن خد الأخدود وقذف الضحية في النار المحرقة تصطلي فيها وتقاسي حرَّها من غير أن تشعر! بل تقتحمها بحماس واستبشار؟!! ولا تدري أن ثمة شيطان أخذ بزمامها ويوردها إلى جهنم وإلى البوار والخزي والعار!
إن قضية كسمايو... قضية شائكة جدا، تحتاج إلى دراسة عميقة، تستوعب أطرافها وأبعادها المختلفة وتظهر المكنون منها والمستور، قلنا في الجزء الأول  في شأن الأخبار والشائعات التي تسري في المدينة: {لكن المحزن الذي يجرح قلوب المشفقين لأمتهم، أن هذه الأكاذيب التي تعج في الساحة هي أخبار تزرع الأحقاد والإحن بين المجتمع، وتسعى لتلغيم الأرض حتى تتفجر براكين الحرب الأهلية من جديد.
لا جرم هناك أيدي خفية وراء الأستار تسعى جاهدة لتأجيج نار الحرب، ليتحقق لها ما تريده من إزهاق طاقات الأمة فيما لا طائل وراءه، ولكي لا تفيق من الغفلة والغيبوبة، فترميه بسهم واحد}

فماذا حدث في كسمايو؟
صليت صلاة الجمعة، كانت الخطبة تتحدث عن قدوم شهر رمضان وأنه أزف واقترب أوانه، وكيف يجب أن نستقبله بقلوب صافية، متحابة في الله، وأن نتوب إلى الله ونخلع المعاصي، وأن نتوحد ونكون صفا واحدا، وكذلك دور رمضان العظيم في غرس هذه المعاني في النفوس.
نعم صلينا الصلاة، وخرجنا من المسجد فإذا بأحد من المتأثرين بالخطبة يدنو إليَّ ويهمس في أذني: لقد تحدثت عن أمر عظيم لو كانوا يفقهون، وأردف قائلا: ولكنني ما أراهم يفقهون ويتعظون، لأنهم في سكرتهم يعمهون، وفي غيهم يسبحون.
فرأيت وجوها مسودة مربدة، وأخرى مكفهرة، الكل حيران ولهان .. أحاديث مضطربة .. تسري في الناس لكنها تصب جميعا في خانة إشعال الموقف وتأزيم الأمور أكثر فأكثر، وتزيد الطين بلة .... لا أستطيع أن أصور لك الموقف بعبرات، وليس الخبر كالعيان.
ذهبت إلى البيت مثقلا بالهموم والأحزان، لكنني حاولت أن أستريح ولو بعض الوقت، فحاولت أن أغمض العينين، لو كان النوم يريحني، فلما وصلت الساعة الثامنة ونصف ظهرا بالتوقيت المحلي، سمعت دوي المدافع والرصاص ينبعث من حي كوبا، فزعت من الفراش، وخرجت أتحسس الموقف.
حاولت أن أفهم لماذا نشب هذا القتال، مهما يقال لك فإنه لا يرقى أن يكون ما  يسوغ أن تزهق من أجله أرواح!!
الناس يقولون: هذه المعركة مصيرية حتى تكون المدينة تحت حكم أحد الأطراف المتصارعة!!
وا أسفاه! المدينة تحت رحمة قوات حفظ السلام – أو قل إن شئت الدقة، قوات إشعال الحروب وحفظها – الميناء والمطار، والمنافذ الرئيسية تحت سيطرة القوات الإفريقية فأي مدينة يقتتلون من أجل إحكام السيطرة عليها؟!!
أعجبني ما نشره الشيخ أبو حسان في صفحته على الفيسبوك متسائلا: أو لم يوجد لكسمايو حلا؟ ثم قال: وكيف يقتتل الأخوان على مدينة لا تخضع لحكم أحدهما؟ إهـ .... فأين ذهبت العقول؟
طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فسقوا وخرجوا عن طاعة ربهم، فعندها جعل الله بأسهم بينهم شديد.
واصلت طريقي فتوجهت صوب المسجد حتي أتعرف عما يجري وأين تتجه الأمور؟ لكن الرصاص والمدافع لم تهملني فكانت تتساقط كالمطر الهطَّال، فدلفت إلى أحد البيوت القريبة، أما ما حدث بعد ذلك فحدث ولا حرج!! أزيز المدافع والصواريخ وطلقات الرصاص كانت سيد الموقف... حقا كانت معركة تعجز الكلمات عن وصفها، صواريخ ترمى بلا هوادة، وبغير وجهة محددة، تحصد كلما أتت عليه وتحوله إلى ركام،  فلم يكن لنا إلا أن نلتجئ إلى الله وتلهج الألسنة بالدعاء.
وقد هالني ما حدث لأسرة أصابها صاروخ أعمى، فحصد الأب والأم، وخلفا وراءهما إبنان، يعيشان بقية حياتهما أيتام الأب والأم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إنها لحادثة مفزعة أفزعت كل الجيران، حتى الحمر والحيوانات الأليفة لم تسلم من الحرب.
ترى ما الذي فرقهم حتى يقتتلوا؟ تجمعهم لغة واحدة، ونسب واحد، وجنس واحد، وينتمون إلى ديانة واحدة، فمن يضرم النار ومن ينفخها إذًا؟!!
كان من أسباب بعض الحروب التي كانت تشتعل بين القبائل في الماضي؛ ندرة أماكن العشب والكلأ، فتحاول كل قبيلة الانفراد بالأماكن الخصبة، أما منطقة جوبا السفلى فكما أشرنا في الجزء الأول فإنها منطقة خصبة وغنية بحيث يمكن أن يعيش فيها 45 مليون إنسان! حتى لو جمعنا كل من ينتمي إلى الجنس الصومالي المتناثر على مشارق الأرض ومغاربها، لقال لنا الإقليم: هل من مزيد؟!!! فلماذا الاقتتال والتناحر إذًا؟
هذا ما يجب أن نقف عنده مليا حتى نكشف الحقائق الخفية التي قامت من أجله هذه الحروب المفتعلة... إن هذه الحرب إذا لم تجد تدخلا وحلا من قبل علماء الأمة وعقلائها، فإنها ستعيدنا عشرين عاما إلى الوراء، ونعود إلى المربع الأول، ونبدأ من الصفر .. إن هذه الحرب ما هي إلا عودة سيناريو 1991م الذي أكل الأخضر واليابس، ولكن بممثلين جدد.
إن الذين افتعلوا هذه الحرب ما هم إلا حفنة من الانتهازيين الذين لا همَّ ولا مأرب لهم إلا اللهث وراء المنصب والحكم، ويستخدمون كل وسيلة توصلهم إلى الحكم ولو كانت على حساب دينهم وأمتهم ووطنهم وعشيرتهم! إنهم لا يأبهون للشباب الذين يزجونهم في الحرب، وإلى الأبرياء المتضررين فيها، وإلى الأعراض التي تنتهك، وإلى البيوت  التي تهدم على رؤوس أهلها، ولا إلى غضب الله والعذاب الأليم المحقق للذين ينهجون هذا النهج...

هذا طرف مما حدث في كسمايو، وما هو إلا غيض من فيض. 

هناك تعليق واحد: